الاثنين، 20 فبراير 2012

سبقته يداه إلى النار


سبقته يداه إلى النار هذه قصة حقيقية مازال بطلها على قيد الحياة ، وقد استأذنته في كتابتها فأذن
لي بذلك بشرط عدم ذكر إسمه ، ولا أخفيك سراً أننى عندما استمعت لهذه
القصة كنت بين مكذب ومصدق ، إلا أن الدموع التي انهمرت من عين
بطلها وهو يرويها ، وبدني الذى اقشعر من هول ما سمعت جعلا صدق الرجل
عندى لا مراء فيه.

وبطلنا وزير سابق فى وزارة سيادية ، كانت سطوته وقسوته مضرب الأمثال ،
وقد خرج من الوزارة عقب أزمة سياسية طاحنة مرت بالبلاد ، ولم يكن من
المقدّر لي أن ألتقي بهذا الوزير السابق لولا أن صديقاً لى إشترى منه قطعة أرض
، وبحكم الصداقة طلب مني صديقي أن أتحقق من الملكية وأحرر عقد البيع ،
وعندما أنجزت المهمة الموكلة إلىّ حانت لحظة التوقيع على العقد الإبتدائى
فطلبت من صديقي اصطحاب الوزير السابق إلى مكتبي حتى يقوم بالتوقيع
باعتباره بائع الأرض ، إلا أن صديقي زم شفتيه وزوى حاجبيه وقال بلا
مبالاة مصطنعة ... الرجل بلغ من الكبر عتياً .... وقد لا تساعده صحته
على الحضور إلى مكتبك ، خاصة وأن مكتبك فى مصر الجديدة وهو يقيم فى
الضفة الأخرى من المدينة ، فهل يضيرك أن ننتقل نحن إليه ؟... وثق أنه لن
يضيع من وقتك الكثير ، ففى دقائق سنكون فى الفندق الأثير للرجل وهو
فندق نصف مشهور فى أطراف الجيزة فى منطقة هادئة ، وقد اعتاد الوزير
السابق إرتشاف فنجان قهوته صباح كل يوم فى الركن الشرقي بهذا الفندق ،
وحسبك يا أخي أنك ستلتقي بوزير كانت الدنيا تقوم ولا تقعد من أجله ،
بل إن كل وزراء مصر فى وقته كانوا يتمنون رضاه ... وعلى مضض
وافقت إذ لم يكن من المألوف فى عملي أن ألتقي بالعملاء خارج المكتب ، وفى
اليوم التالي كانت السيارة تنهب الأرض نهباً فى طريقها إلى الجيزة ، وكانت
قطرات المطر تنساب على زجاج السيارة الأمامي برتابة مملة ، فى الوقت
الذى ظل صديقي فيه يتحدث بلا توقف وبرتابة مملة أيضاً إلا أنني تشاغلت
عنه بمراجعة الأوراق والعقود.

ومن بعيد رأيت الرجل ... يا الله ... أهذا هو من إرتعدت فرائص مصر من
بطشه وجبروته ؟ !! أهذا هو من ألقى العشرات فى السجون وبغى
وتجبر ...؟!! ها هو يجلس وحيداً فى ركن منزوٍ وقد خط الزمن بريشته
خطوطاً متقاطعة على وجههه ، وفعل الأفاعيل فى تقاطيعه فتهدل حاجباه
وتدلت شفتاه وبدا طاعناً فى السن وكأنه جاء من زمن أهل الكهف.

وعلى الطاولة وبعد همهمات وسلامات قدمت الأوراق إلى الرجل وأعطيته
قلمى كى يوقع على العقد ، إلا أنه أخرج قلماً من معطف كان يضعه على
كرسي قريب منه ثم خلع قفازه ، وارتدى نظارة القراءة وسألني بإبتسامة
باهتة ... أوقع فين يا أستاذ؟ فأشرت له إلى خانة فى الصفحة الأخيرة ،
وأمسكتها له كى أساعده ، وفى اللحظة التى قام فيها الرجل بالتوقيع على
العقد جفلت يدي رغماً عني ، فوقعت الورقة مني ، إذ وقعت عيناي على ظهر
يد الرجل اليمنى فرأيت بقعة مستديرة ملتهبة فى جلده يتراوح لونها بين
الإحمرار والاصفرار وكأنها سُلخت على مهل ، والغريب أنني شممت رائحة
شواء تنبعث من هذه البقعة وكأنها ما زالت تشوى على النار !!! ويبدو أن
الوزير السابق تنبه لحالة الإرتباك التى أصابتني ، وتوقعت أن يهب ثائراً متبرماً
، إلا أنه وعلى عكس ما توقعت نظر إلىّ نظرة حانية هادئة وكأنه أبي ، وإذا
بملامح طيبة ترتسم على وجههه بلا افتعال ، ملامح لا علاقة لها بالوزير
المتغطرس الباطش المستبد ، وكأن ملامحه الطيبة هذه تدل على رجل من أهل
الله ، وبيد مرتعشة تفوح منها رائحة الشواء قدم لى الوزير العقد قائلاً :
إتفضل ياأستاذ ، ثم إلتفت لصديقي قائلاً : مبارك على الأرض .... إتفضلوا
أكملوا الشاي.
ومع الرشفة الإخيرة وبعد عبارات التهنئة جمعت كل ما أملك من قوة وقلت
له سلامة يدك يامعالي الباشا ، شفاك الله وعافاك ... خير ان شاء الله ....
يبدو أن شيئاً ما أصاب يدك قبل حضورنا فشكلها ملتهب جداً .... ولم
يرد الرجل إلا بتمتمة غير مفهومة ، إلا أنه نظر فى الفراغ الذى أمامه نظرة
أسى وحزن وكأنه أتعس رجل فى العالم.

ومرت أيام وشهور على هذه الواقعة وظلت نظرة الرجل التعيسة ويده المحترقة
التى تفوح منها رائحة الشواء لا تغادر خيالي ... إلا أنه لأن كل شيئ يُنّسى
مع مرور الأيام إنزوت هذه الواقعة فى ركن خلفي من ذاكرتي وسرعان ما
تناسيت الرجل وتناسيت يده المشوية.

ومر عامان إلا بضعة أشهر وجاء موسم انتخابات نقابة المحامين ، وتزاحمت علىَّ
الأحداث ذلك أن أحد أصدقائي رشح نفسه لمنصب النقيب وكانت ضريبة
الصداقة والوفاء توجب علىّ الوقوف بجانبه عن طريق جلب الأنصار وتحييد
الخصوم ، وحدث أن واعدني أحد الأصدقاء لمقابلة بعض الأنصار فى نفس
الفندق الذى التقيت فيه بالوزير السابق وقبل الموعد المضروب كنت أجلس فى
نفس الركن الشرقي ارتشف فنجان القهوة المضبوط ، وأمسح حبات العرق
التى سالت على جبيني من فرط حرارة الجو ، وإذا برجل طاعن فى السن
يتوكأ على عصاه ، ويتوجه على مهل إلى طاولة فى أقصى المكان ....
منفرداً .... منزوياً ... نعم كان هو الوزير السابق صاحب اليد الحمراء
المشوية.

وبعد أن جلس واستوى على مقعده حانت منه التفاتة إلى الطاولة التى أجلس
عليها , ثم إذا ببصره يعود ويستقر عندى للحظات ، وكان أن تبادلنا
الإبتسامات والإيماءات ، ولغير سبب واضح قمت من مقعدي وتقدمت
للوزير السابق محيياً مذكراً إياه بنفسي ، وبنفس الملامح الطيبة التى رأيتها
عليه من قبل دعاني للجلوس ، وبعد التحيات والسؤال عن الصحة والكلام
عن الجو الحار والزحام وقعت عيناي رغماً عنى على يده فوجدته – ويالعجبي
– يرتدي قفازه الأسود !! – رغم حرارة الجو – فقلت بغير دبلوماسية
وبعبارات فجة متطفلة لا أعرف كيف خرجت مني .. كيف حال يدك يا
معالى الباشا ... أشفيت إن شاء الله ... حرق هو أليس كذلك؟ ...
وبكلمات بطيئة متلعثمة وجلة قال ... نعم حرق ولكن ليس كأى
حرق ... إيه ربنا يستر.

ولدهشتي استرسل الوزير السابق فى حديثه وكأنه يحدث نفسه ... طبعاً إنت
عارف ماذا كان موقعي فى الدولة ، كنت الآمر الناهي وكان الجميع يخطب
ودي تصورت أنني أعز من أشاء وأذل من أشاء وتصورت أن المنصب
سيدوم لى أبد الآبدين لم أفكر فى يوم من الأيام أن هناك خالقا وأن هناك
حسابا ، فحبست وعذبت وخربت بيوت بغير حق بل وأحياناً دون
سبب ... وجاء يوم وليته ما جاء كنت عائداً إلى بيتي تحيطني سيارات
الحراسة من كل جانب ، ولسوء طالعي وقع بصري على كشك سجائر قابع
فى جانب من الطريق فأستقبحت منظره ، وفى اليوم التالي أصدرت قراراً
بإزالة الكشك وفي غضون دقائق معدودة بعد صدور القرار قامت قوات
وجحافل بإزالة الكشك حتى لا يقع عليه بصري وأنا عائد إلى بيتي ، لا
تسألني عن صاحب الكشك ولا عن حقوق الإنسان فوقتها لم يشغل هذا الأمر
تفكيري ولو للحظة ، وقطع الوزير كلامه قائلاً: تشرب شاي لا زم
والله... وقبل أن أرد عاد إلى حديثه دون أن ينتظر إجابتي ... وأثناء عودتي
نظرت إلى مكان الكشك فوجدت رجلاً متهالكاً يجلس على الأرض ومعه
امرأة متشحة بالسواد وأطفال حفاة أقرب إلى العراة ، وعندما اقترب الموكب
من المكان تمهل الركب لغير سبب وكأننا مجموعة من الحجاج يطوفون حول
بقعة قدسية ، فإذا بالرجل الجالس يهب واقفاً قائلاً بأعلى صوته يا فلان إتق
الله.. إتق الله.

وضايقتني العبارات أشد المضايقة فسألت أحد اللواءات الذين كانوا يرافقونني
من هذا؟ فقال لى: إنه صاحب الكشك .. ولم أنتظر لليوم التالى بل وأنا فى
سيارتى أصدرت قراراً بإعتقال صاحب الكشك ثم اتصلت تليفونياً ببعض
أعواني وأمرتهم بتأديب الرجل ... ومرة أخرى قطع الوزير كلامه قائلاً:
الله ...ألم تطلب شاي لازم والله ... ثم وبنفس الإسترسال ودون انتظار
الإجابة إستمر قائلاً ... أرقتني عبارة الرجل إتق الله كانت صادقة وقوية
ومجلجلة ، لم أتعود أن يقولها أحد لي من قبل ، هل تصدق أنني عندما ذهبت
إلى بيتى تحدثت مع قريب لى فى كلية دار العلوم حتى يشرح لي معنى كلمة
"إتق الله" لا أعرف لماذا توقفت هذه الكلمة عند أذني وتجاوزت سمعي إلى
داخل أحشائي فإذا بألم شديد يمزق معدتي ... ومع بعض المسكنات
والمهدئات حاولت أن أنام ولم أستطع وفى اليوم التالي رأيت فى ذات المكان
إمرأة صاحب الكشك وهى متشحة بسوادها ومعها أطفالها العراة ، وإذا
بصوتها هي الأخرى يعلوا مجلجلاً يا فلان إتق الله ، وفى بيتي لا حظت زوجتي
أرقي فهدأت من روعي وقالت لي: لا تخش شيئاً أنت من أهل الجنة
خدماتك على البلد كثيرة حد يقدر ينكر.

هل تصدق ياأستاذ ... هو بالمناسبة ألم تطلب شيئا ؟؟ الله ألم تطلب شاي لازم
والله ، وعرفت أنه لن ينتظر إجابتي وبالفعل استمر فى استرساله الغريب ...
هل تصدق أنني نمت يومها نوماً عميقاً ... وياليتني ما نمت .... وهنا بدأت
دموع الرجل تنساب وبدأ صوته يتهدج ، نمت ورأيت في نومي أن القيامة قد
قامت ورأيتني عارياً من ملابسي ، وإذا بملائكة غلاظ شداد لا أستطيع أن
أصفهم لك يجذبونني بعنف إلى النار وأنا أقاوم وأحاول أن أبحث عن حراسي
ورجالي ولكن للأسف لم أجد أحداً معي يناصرني أو يدفع عني العذاب ، هل
تصدق أنه أثناء جذب الملائكة لي رأيت زوجتي فقلت لها انقذيني فقالت :
نفسي نفسي ، فتعجبت !! وقلت لها : ألم تخبريني أنني من أهل الجنة ؟ فلم
ترد ، حاولت أن أناقش الملائكة فقلت لهم لقد قدمت لمصر الكثير ستجدون
أعمالي الباهرة فى ميزان حسناتي فلم يرد علي أحد منهم ، وأثناء جذبي وجرّي
نظرت إلى الجنة فوجدت قصراً عالياً شامخاً ليس له مثيل يظهر من خلال
أسوار الجنة ، هل تصدق أنها أسوار تشف ما خلفها!! فقلت للملائكة هذا
قصري خذوني إليه فقال أحد الملائكة إنه قصر صاحب الكشك فقلت ولماذا
استحقه فقال الملاك لأنه لم يرضخ للظلم وقال كلمة حق عند سلطان جائر
فهو شهيد ، فقلت وأين مكاني قالوا فى الدرك الأسفل من النار ، وقتها
حاولت التملص منهم وكنا قد اقتربنا من أبواب الجحيم ، وعندما هممت بدفع
أحد الملائكة بيدي هذه إذا بلفحة بسيطة من حر جهنم تصيبني فى ظهر يدي
، آه لو تعرف يا أستاذ مدى الألم الذي أصابني لا يوجد مثله مثيل على وجه
الأرض ، مجرد لفحة بسيطة لا من النار ولكن من حر النار ، فقمت من نومي
صارخاً فزعاً ونظرت إلى ظهر يدي فإذا به وكأنه احترق ورائحة الشواء
تتا تتا تتصاعد منه وآه وآه وألف آه أسرعت بالإتصال تليفونياً بأحد رجالي
فإذا به يخبرني أن صاحب الكشك مات من التعذيب ... مات لا وألف
لا .... صرخت قائلاً ... أعيدوه للحياة .... أعيدوه للحياة أعيدوا له
الكشك .... ولكن لا حياة لمن تنادي ... سبقتني يدي إلى النار ... كنت
قد اندمجت مع حكاية الوزير حتى أنني لم ألحظ بكاءه ونشيجه ، وكان بدني
كله مقشعراً وكأنني قنفذ تائه فى صحراء , ونظرت حولي فإذا ببعض الجالسين
المتطفلين ينظرون إلينا بإهتمام بالغ ، وتدحرجت كلمات مني لا علاقة لها
ببعض : يا باشا ربنا غفور رحيم أطلب منه المغفرة ... على فكرة أنا ممكن
أطلب شاي .... هو الرجل مات فعلاً .... هى النار جامدة قوى ... ربنا
يستر .... ربنا يستر ..... وبعد هنيهة عاد الهدوء للرجل وإكتسى وجهه
بملامح طيبة وظهرت فى عينيه نظرة رجاء واستعطاف ثم قال ربنا غفور أليس
كذلك ثم أردف إتفضل أشرب شاي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق