هبط المساء متشحاً بالعتمة، صار كثيفاً بعد ساعتين والمدينة غرقت بالظلام،
القمر وحده يرسل ضوءاً شحيحاً وتبدو الأبنية والأشجار مثل هياكل غريبة ومريبة..
صمت طويل لا يكسره سوى نباح الكلاب، وتسمع من حين لآخر همهمة هنا أو خشخشة هناك.
القلب معصور ومنقبض، كأن يداً بعشرات المخالب تحاول إسكات نبضاته،
والقشعريرة تهاجم الجسد النحيل وترجّه فترتج معه الأبنية الغارقة بسواد الليل.
تساءلت بينما الوحشة تحيط بها : أين أنت، في أية زاوية من العالم ؟
لا أحد في الشارع سوى الكلاب الضالة التي اختفت بعد حين مصحوبة بصدى نباحها،
كأن المدينة أخليت من ناسها.. رائحة غريبة يقذفها هواء الليل على نافذتها المشرعة،
ربما كانت لحيوان نافق، أو أنها تأتي من أكوام الزبالة في الساحة المجاورة لبيتها..
أشياء تطير في الهواء وتذهب إلى بطن الليل، وأشياء تحط على الأرض ويخفيها الظلام،
بينما اليد الخفية تمد مخالبها وتعصر القلب.
أحسّت أنها تلهث كما لو أنها قطعت مسافة طويلة، أو أنها تواصل صعود جبل لا نهاية له..
داهمتها نوبة سعال، كانت قد أهملت الدواء منذ يومين، طعمه مقرف،
وكلما شربت منه استفرغت.. عدّلت من وضع الشال حول كتفيها،
أغلقت النافذة وعادت إلى الفراش .
أخشى أن أموت وحيدة.. أخشى أكثر أن أموت قبل أن أراك.. أتراك تغيرت مثلي ؟
أم أن الزمن لم يسلب نضارة عينيك الساهمتين ؟
اندسّت تحت الأغطية الثقيلة الباردة وغفت مثل كل ليلة
على صورة لم تتبدل ملامحها.. صورته وهو يودعها.
كلما أعادت ما حدث، يطن في رأسها ما قاله الرجل الضخم
الذي طرق الباب ذات ليل بارد، وحين فتح له سمعته يقول :
لن تتأخر، عشر دقائق، مجرد استيضاح .
لبس الروب فوق بيجامته لأن الرجل الضخم قال له : بسرعة.. ليس لدينا وقت.
كانت عيناها ما تزالان مثقلتين بالنوم، نظرت إلى الساعة، الوقت جاوز منتصف الليل بقليل،
عندما سألته : ماذا هناك ؟
ردّ عليها مرتبكاً : لا أدري، يقولون مجرد استيضاح.
سألت ثانية : عن أي شيء ؟ أعاد عبارة : لا أدري، وأضاف :
ربما يتعلق الأمر بالرصاص الطائش الذي حدث ليلة البارحة .
كان مسرعاً نحو الخارج، لحقت به وسألت للمرة الثالثة : ما علاقتنا بما حدث
؟ غير أنها لم تتلق الرد، وضاعت خطواته في الليل البارد..
أسرعت إلى النافذة ورأت سيارة عسكرية، صعد الاثنان من الباب الخلفي
واختفت بلمح البصر.. لم تتبيّن ملامح الرجل الضخم الذي طرق الباب
وأخذ زوجها سوى أنه ضخم الجثة .
لم تنم تلك الليلة.. الدقائق العشر امتدت إلى اليوم الثاني، والثالث،
والرابع والخامس... والعاشر... إلى الشهر الأول والثاني والثالث والخامس... والعاشر..
ومر العام الأول والثاني والثالث... والعاشر.. ثم لا تدري كم من السنين عبرت منذ أخذوه .
لكنها تدرك الآن فداحة الخسارة حين تنظر في المرآة وترى امرأة لا تعرفها،
وحين لم تعد تسمع عبارة غزل وهي تقطع الشارع، وحين تسعل وينشرخ صدرها،
أن عدداً لا يحصى من السنوات مرّ على غيابه.
في النوبة الأخيرة من السعال، بعد آلاف الليالي والنهارات،
وقبل أن تصمت الأشياء من حولها تماماً، وينطفئ الضوء في عينيها،
أدركت أنها كانت تطارد شبحاً على هيئة رجل أخذوه بعد منتصف الليل بقليل .
القمر وحده يرسل ضوءاً شحيحاً وتبدو الأبنية والأشجار مثل هياكل غريبة ومريبة..
صمت طويل لا يكسره سوى نباح الكلاب، وتسمع من حين لآخر همهمة هنا أو خشخشة هناك.
القلب معصور ومنقبض، كأن يداً بعشرات المخالب تحاول إسكات نبضاته،
والقشعريرة تهاجم الجسد النحيل وترجّه فترتج معه الأبنية الغارقة بسواد الليل.
تساءلت بينما الوحشة تحيط بها : أين أنت، في أية زاوية من العالم ؟
لا أحد في الشارع سوى الكلاب الضالة التي اختفت بعد حين مصحوبة بصدى نباحها،
كأن المدينة أخليت من ناسها.. رائحة غريبة يقذفها هواء الليل على نافذتها المشرعة،
ربما كانت لحيوان نافق، أو أنها تأتي من أكوام الزبالة في الساحة المجاورة لبيتها..
أشياء تطير في الهواء وتذهب إلى بطن الليل، وأشياء تحط على الأرض ويخفيها الظلام،
بينما اليد الخفية تمد مخالبها وتعصر القلب.
أحسّت أنها تلهث كما لو أنها قطعت مسافة طويلة، أو أنها تواصل صعود جبل لا نهاية له..
داهمتها نوبة سعال، كانت قد أهملت الدواء منذ يومين، طعمه مقرف،
وكلما شربت منه استفرغت.. عدّلت من وضع الشال حول كتفيها،
أغلقت النافذة وعادت إلى الفراش .
أخشى أن أموت وحيدة.. أخشى أكثر أن أموت قبل أن أراك.. أتراك تغيرت مثلي ؟
أم أن الزمن لم يسلب نضارة عينيك الساهمتين ؟
اندسّت تحت الأغطية الثقيلة الباردة وغفت مثل كل ليلة
على صورة لم تتبدل ملامحها.. صورته وهو يودعها.
كلما أعادت ما حدث، يطن في رأسها ما قاله الرجل الضخم
الذي طرق الباب ذات ليل بارد، وحين فتح له سمعته يقول :
لن تتأخر، عشر دقائق، مجرد استيضاح .
لبس الروب فوق بيجامته لأن الرجل الضخم قال له : بسرعة.. ليس لدينا وقت.
كانت عيناها ما تزالان مثقلتين بالنوم، نظرت إلى الساعة، الوقت جاوز منتصف الليل بقليل،
عندما سألته : ماذا هناك ؟
ردّ عليها مرتبكاً : لا أدري، يقولون مجرد استيضاح.
سألت ثانية : عن أي شيء ؟ أعاد عبارة : لا أدري، وأضاف :
ربما يتعلق الأمر بالرصاص الطائش الذي حدث ليلة البارحة .
كان مسرعاً نحو الخارج، لحقت به وسألت للمرة الثالثة : ما علاقتنا بما حدث
؟ غير أنها لم تتلق الرد، وضاعت خطواته في الليل البارد..
أسرعت إلى النافذة ورأت سيارة عسكرية، صعد الاثنان من الباب الخلفي
واختفت بلمح البصر.. لم تتبيّن ملامح الرجل الضخم الذي طرق الباب
وأخذ زوجها سوى أنه ضخم الجثة .
لم تنم تلك الليلة.. الدقائق العشر امتدت إلى اليوم الثاني، والثالث،
والرابع والخامس... والعاشر... إلى الشهر الأول والثاني والثالث والخامس... والعاشر..
ومر العام الأول والثاني والثالث... والعاشر.. ثم لا تدري كم من السنين عبرت منذ أخذوه .
لكنها تدرك الآن فداحة الخسارة حين تنظر في المرآة وترى امرأة لا تعرفها،
وحين لم تعد تسمع عبارة غزل وهي تقطع الشارع، وحين تسعل وينشرخ صدرها،
أن عدداً لا يحصى من السنوات مرّ على غيابه.
في النوبة الأخيرة من السعال، بعد آلاف الليالي والنهارات،
وقبل أن تصمت الأشياء من حولها تماماً، وينطفئ الضوء في عينيها،
أدركت أنها كانت تطارد شبحاً على هيئة رجل أخذوه بعد منتصف الليل بقليل .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق