الأحد، 19 فبراير 2012

الكعب العالى

الكعب العالي
أغلقت الباب ورائي وأنا أسأله ألا يغلق، نزلت السلم وأنا أتمنى ألا تنتهي درجاته مشيت مشتتة الفكر والخواطر، أتعجب من حالي ومن قراراتي المتهورة هل سأعيد التفكير الآن؟ هل سأعيده بعدما أصبح بيني وبين موعده ما يقل عن الساعة زمناً ويزيد عن الأعوام إحساسا؟
مشيت وأنا أعلم أنني غادرت منزلي مبكرة عن موعدي ولكني كنت قد قررت أن أصل إلي ذلك النادي البعيد سيراً، لعله القرار الوحيد الصائب ضمن سلسلة قرارات متهورة يأتي على رأسها ذلك القرار العجيب:" سأقابله".

يا إلهي.. خمس سنوات مضت لم تطأ قدمي فيها تلك الطرق الطويلة المؤدية إلى ملقانا، كم تغيرت معالمه! مثلما تغير كل ما حولنا وما فينا، لماذا تصر على أن ذلك التغيير لم يحدث وكل ما حولنا يؤكد حدوثه؟ حتى هذه الفتاة السائرة أمامي تتأبط ذراع فتاها، هل حدث قبلاً وتأبطت ذراعك في طريقنا الطويل؟ تتداعى الذكريات على رأسي وتدقها دقاً مريراً، أحس مرارتها في جوفي وكأن كل ما حدث مضى عليه الأمس فقط ولم يمر عليه خمس سنوات عجاف من حياتي.

تذكرت أول لقاء لنا، وتذكرت كيف لم تسعك الفرحة حين وافقت أخيراً أن ألقاك بعيداً عن عيون المتطفلين، تذكرت كيف أتيتك راكضة أسابق لهفتي لأجدك بانتظاري كالأرض العطشى في انتظار الماء من زمن طويل.. ذلك اللقاء الأول .. الذي ظلت عذوبته مبرراً لأغفر لك أخطاءك زمناً طويلاً.. ذلك اللقاء الأول..الذي أقسمت لي فيه أنني حبك الحقيقي الذي طال بحثك عنه، وحين أقسمت لك إنك أول من فض بكارة قلبي واحتله، حين أعلنتها عالية إنك ستحارب الدنيا من أجلي وحين عاهدتك أن أموت معك أو أقتل دونك في حربنا السامية... بعد ذلك اللقاء الأول تعددت لقاءاتنا وأحلامنا، حتى أطفالنا أسميناهم.. هل تتذكر يوم اختلفنا لأنني قررت إطلاق اسم «ياسر» على مولودنا الأول واعتقدت أنت أنه اسم ابن عمي الذي يحبني منذ كنا أطفالاً، هل تتذكر شجارك معي ورفضك الإفصاح عن سبب رفضك للاسم حتى حلفتك بأغلى ما لديك -كما كنت أعتقد- حينما قلت لك " وحياتي عندك قول" ولم تهدأ ثورتك إلا عندما علمت أن ابن العم اسمه «جاسر» وليس ياسر... هل تتذكر كل هذا؟ هل تذكر يوماً حين جلست أمامك أبكي وأستحلفك بكل عزيز لديك أن تقول لي "أحبك " أو تتذكرني.. يومها كنت محطمة ضائعة، كنت أخشى أن تتركني وكانت شاشة راداري مشوشة لا تستقبل موجات حبك كعهدها، وكان هناك ذلك الإحساس الخفي الذي يتعاظم عند المرأه كلما عظم حبها، إنه ذلك الاحساس الذي يقول بلهجة قاسية مؤلمة" احترسي.. أخرى تهدد بقاءك ".

هل كنت أنا الملومة؟ هل كان خطئي إنني أحببتك ؟ هل كان حبي قيداً ؟.. لا أعتقد بل كان حبك هو القيد لكرامتي وشبابي ومشاعري، كنت أعيش لك وبك ومعك ومع ذلك كان الشك ملء عيونك دائماً، وعندما كنت أفكر في كل مامررت به أتساءل: كيف كنت أحبك لهذه الدرجة؟ هل من الممكن أن يدفع الحب إنساناً للتخلي عن كرامته و كيانه ؟ وكانت تأتيني الإجابة: " نعم ".

وأتذكر يوم عرّفت لك الحب على لسان بطلة " شجرة اللبلاب ": "الحب عبودية وأشد العبيد قرباً لمولاه أحرصهم على طاعته" .. كان ذلك مبدئي وياله من مبدأ لعين دفعت ثمنه حينما واجهتني بعد أن علمت أنا بوجود الأخرى، واجهتني وكأنه لم يعد يعنيك من أمري شيئاً، لن أنسى ما حييت بكائي المر أمامك أرجوك أستعطفك ألا تتركني وأعاهدك أن أبذل روحي لك، فقط عدْ لي... ولن أنسى كيف لم تنجح دموعي الساخنة في إذابة جبال الجليد التي خرجت من فمك : "خلاص.. كل شىء انتهى"... وتركتني دون أن تنظر خلفك وكأنك تترك خلفك ماضياً لا يعنيك .

والآن.. بعد مرور خمس سنوات لم أذق فيها حباً وكيف لي أن أعرف طعم الحب وقد وهبتك بكارة مشاعري البريئة الأصيلة، الآن بعد أن اعتقدت أخيراً أنني تغلبت عليك بداخلي تطلبني لتقول لي : "ما أحببت سواك، حاولت ولم أستطع عنك بعداً".. تفاجئني بسيل عارم من الأشواق كافٍ لتحطيم أي سد أحاول إقامته أمامك، هل لاحظت ارتعاشة صوتي؟ هل أرضي ذلك غرورك؟ أم أن هذا ما دفعك لأن تطلب مقابلتي على وجه السرعة؟ أم لهذا لم تصدقني عندما قلت لك لقد تغيرت ولم أعد تلك الضعيفة المهزوزة؟ الآن الصوت ارتعش اعتقدت أن القلب أيضاً ينتفض حسبت أنني انتظرت هذه المكالمة طويلاً. لن أكذب عليك نعم انتظرتها قبلاً، كانت في يوم ما كفيلة بأن تعيدني إليك وأنا في قمة السعادة والحب معاً أما الآن فليس لها وليس لك صدى في قلبي، أتريد الإثبات؟ حسناً سأقابلك لأقول لك "لا أريدك!". ولتكن هذه بدايتي لاستعادة نفسي مرة أخرى، وتحدَدالمكان نفس مكان اللقاء الأول حسناً لن تثيرني الذكريات فما عدت أذكر سوى المريرة منها.

ها أنذا سائرة في طريقي إليك .. أتمنى أن ينكسر ذلك الكعب العالي الذي أرتديه فلربما استطعت بذلك الهرب من هذا اللقاء، هل تعلم لم لبست كعباً عالياً ؟لكي أبدو أطول قامة منك، كنت تمنعني قبلاً والآن ماعاد شىء يمنعني، لن أعود إليك حتى لا تمنعني من ارتداء الكعب العالي مرة أخرى، لمَ أتمني الآن أن يحدث ما يحول دون وصولي إليك؟ لماذا أحس أن شجاعتي ستخونني وأن كل ما خططت له عل وشك أن ينهارفوق رأسي وحدي؟
ها هو باب النادي وها أنذا أتجاوزه.. ها هو جالس في انتظار وصولي، بيد أنه لم يعرفني للوهلة الأولى، تبدو على ملامحه الدهشة، بالطبع فقد تغيرت أصبحت أكثر جمالاً وأناقة وأكثر طولا فلقد أنفقت الأمس بطوله في الإعداد لهذه المناسبة، صافحته على عجل وجذب لي مقعدي كأي "جنتلمان" لم يحرك تلامس كفينا لي ساكناً أحسست بارتعاشة يديه، ارتعاشة متأخرة جداً شأنها شأن الموقف كله. رفضت أن تبدأ بالكلام فبدأت أنا قلت ما لدي علي عجل دون أن ألتقط أنفاسي بين الكلمات... كل ما أتذكره هو آخر كلماتي: أنا لا أريدك، لست فتي أحلامي ولست من أرغب في إكمال حياتي معه، لقد صنعتك من هواي ومن جنوني ولقد برئت من الهوى ومن الجنون.. انتهيت من كلماتي، ووقفت ومشيت في اتجاة الباب، بل ركضت في اتجاة الباب وبمجرد أن غادرت الباب، انكسر الكعب العالي، التقطت أنفاسي ، أشرت لتاكسي وارتميت بداخله وقد قررت ألا أرتدي كعوباً عالية بعد الآن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق